دراسات
إسلامية
غياب
القيم من أسباب الجرائم والإنحرافات
والشذوذ
في المجتمعات
بقلم : الأستاذ
محمد أويس الصديقي القاسمي النانوتوي
إن إصلاح البـاطن أسـاس لكل إصلاح ظاهري ، ولا بقاء لإصلاح خارجي بدون إصلاح الباطن ، والدليل على ذلك ، هو النظر في حال رجل تعلق بجماعة ، وحاول إصلاح ظاهره بدون إصلاح باطنه ، بعد قليل هو يرجع إلى ما كان عليه في السابق .
إن
شعبة الأخلاق هي الكفيلة بالإصلاح الباطني ، وغيبة الضمير من أهم الأسباب التي
تؤدي إلى كثير من الجرائم والانحرافات والشذوذ .
إن
الإسلام حدد الغاية الأولى من بعثة الرسول ﷺ،
والمنهاج المبين في دعوته «إنما
بُعِثْتُ لأتمم مكارم الأخلاق»
فكان الرسالة التي خطت مجراها في تاريخ الحياة ، وبذل صاحبها جهدًا كبيرًا في مد
شعاعها ، وجمع الناس حولها لاتنشد أكثر من تدعيم الفضائل والقيم ؛ حتى يسعى الناس
إليها على بصيرة ، ويتبناها على بينة من الأمر .
وليست
العبادات الإسلامية مجرد طقوس مبهمة ، بل إنها هي شرعت لتعويد المرء ، أن يحيى
بأخلاق صحيحة وأن يظل مستمسكاتها مهما تغيرت أمامه الظروف . ومن هنا كانت عناية
الإسلام بالخلق عناية تفوق كل عناية ، ولقد وصلت هذه العناية عند الرسول ﷺ،
إلى أن جعل الخلق أساس رسالته . يقول ﷺ
: «أثقل
ما يوضع في الميزان يوم القيامة تقوى الله وحسن الخلق»
هذا القول إن دل على شيء فقد دل على أهمية الخلق الحسن ، الذي يعتبر النقطة الهامة
لترسيخ القيم في أذهان أفراد المجتمع ، بعد مطالعة الكتب التي تتعلق بالثقافة
الإسلامية والتعاليم الإسلامية ، أمكن لنا إخراج سبعة محاور تاليه لترسيخ القيم في
الأذهان .
أول
: إشباع الحاجات الأساسية لأنها ضرورة لبقاء الإنسان والحفاظ على حياته ، وتشمل
وجود أسرة راعية . وهي أساسية لتنشئة الناشئة بصورة سليمة خالية من المشكلات ، كما
تشمل الحاجات المادية مثل السكن والمأكل والملبس ، وهي حاجات متباينة ، وتختلف من
مكان إلى آخر ومن شخص لآخر اتبعا للمستوى الاقتصادي والمعيشي للفرد . وقد أشار
إليه القرآن الكريم بقوله : كُلُوْا وَاشْرَبُوْا وَلاَ تُسْرِفُوْا إنَّه لاَ
يُحِبُّ الْمُسْرِفِيْنَ . وقد شدد يونج Jung ، خبير علم النفس
على ضرورة إشباع الحاجات الأساسية ، وادّعى أنه لايمكن إشباع الحاجات الأخرى ، كالانتماء واحترام الذات وتحقيق
الذات ، بدون إشباع الحاجات الأساسية وسمى هذه النظرية نظرية التسلل الهرمى
للحاجات .
فإذا
توافرت هذه الحاجات تتمكن الأسرة من ترسيخ القيم في نفس الطفل منذ صغره .
2-
توفير الرعاية الأسرية الصالحة فبوجود أسرة طبيعية تقوم على التوافق الأسرى يفضل
شخصيتي الأب والأم يتعلم الطفل من خلال عمليتي التقليد والتعليم الأدوار
الاجتماعية الملائمة قال الله تعالى : «وَمن
آياته أنْ خَلَقَ لَكُمْ مّنْ أَنْفُسِكُمْ أزْوَاجًا لِتَسْكُنُوْا إلَيْهَا
وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَّوَدَّةً وَّ رَحْمَةً»
. (الروم : 21)
فيجب
أن يكون هذا العقد بعيدًا عن عبث العابثين ليحقق تلك الأهداف الكريمة من المودة
والرحمة والسكن النفسي بين الزوجين في الأسرة المسلمة نواة المجتمع .
3-
ارتباط أحكام الأسرة في القرآن بالعقيدة ارتباطًا عضويًا ، تقوم على قاعدة الإيمان
بالله وتقواه مما يدل على أن قداسة هذه الأحكام من قداسة العقيدة ونرى مصداق ذلك
في قوله تبارك وتعالى : لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوْا وُجُوْهَكُمْ قِبَلَ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلـٰـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّيْنَ وَآتىٰ
الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّه ذَوِيْ الْقُرْبىٰ وَالْيَتَامَىٰ
وَالْمَسَاكِيْنَ . (البقرة:77)
4-
العلاقة الإيجابية داخل الأسرة فعلاقة الأم بأطفالها، وهي تمثل الدعامة الأولى
التي تمده بالحياة وتكوين بنيانه الأساسي ، كما هي محور النشاط التربوي في الأسرة
، وتتحمل مسؤولية تربية الأولاد وتمنحهم الطاقة النفسية والحب .
وأما
علاقة الأب بأبنائه فكذلك لا تقل عن علاقة الأم أهمية، حيث توضح الدراسات أن غياب
الأب عن المنزل له آثار سلبية على تنشئة الأولاد ، واكتساب الخصائص النفسية والاجتماعية والإيمانية، حيث يمثل الأب
قدوة صالحة إيجابية لأولاده . وقد أثبتت الدراسات وجود علاقة طردية بين غياب الأب
والسلوك المنحرف للأبناء . والعلاقة بين الزوجين لها أثر كبير في نمو الأطفال ،
فالسعادة الزوجية تؤدى إلى تماسك الأسرة مما يساهم في إشباع حاجات الطفل النفسية
والاجتماعية وتساعد الطفل على أن ينمو كشخص يحب غيره وثيق .
5-
العلاقة بين الإخوة لها أثر كبير في النمو النفسي والاجتماعي للطفل وفي اكتسابه
للمهارات الاجتماعية المرتبطة بالتعامل مع الآخرين . ولابد أن تسود العلاقة بين
الإخوة الحب القائم على عدم تفضيل أخ على آخر سواء لأسباب السن أو الجنس أو اللون
.
وذلك
لأن الخبراء في مجال التعليم يرون أن الأصدقاء والزملاء ، من بينهم الإخوة الأشقاء
، يؤثرون إيجابًا وسلبًا على نفسية الطفل ، ولا يتقوف تأثيرهم على مرحلة الطفولة
والمراهقة ؛ بل يمتد إلى المراحل الأخرى لحياته .
6-
ومن أهم العلاقات الأسرية الإيجابية، التي تساهم في النمو النفسي الحرية المعتدلة
في التعامل بين أطراف الأسرة جميعها ، فهي حرية مسؤولة وليست فوضوية ، وأصل فكرة
الواجبات التي تقابل في الشرائع والدساتير الحديثة فكرة الحقوق قال ﷺ
: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).
7-
الإيمان بالتلازم بين الحقوق والواجبات بين الزوجين . فالزوج له حقوق كفلها الدين
والمجتمع يقابل ذلك واجبات ومسؤوليات عليه القيام بها ، وهكذا الزوجة والأبناء ،
فلا يستأثر طرف بالحقوق بدون الحصول على الحقوق ، كما يجب أن تتصف العلاقات بين
أطراف الأسرة بالاستقرار وبالثبات في المعاملة ، وبالحب والتسامح المقبول ، فالعلاقات
الأسرية تقوم على وجود عاطفة مقبول بجميع أطرافها ، فإذا حدث خطأ فلابد أن يكون
التسامح مقبولاً والعفو مكرمة وليس تنازلاً أو ضعفًا .
انحراف
بالفطرة :
إن
الإنسان ينزع نحو الشر ويرتكب الجرائم والآثام ، في حق نفسه ومجتمعه وأسرته والإنسانية
جمعاء ، ذلك عند ما يغيب الضمير الإنساني الإلهي بسبب انحراف الإنسان عن فطرته
الأخلاقية الإيمانية التي قررها الخالق . (فِطْرَةَ اللهِ الَّتِيْ فَطَرَ
النَّاسَ عَلَيْهَا لاَتَبْدِيْلَ لِخَلْقِ اللهِ) وهذا قدر مشترك بين جميع
الأفراد ، ولكن عندما ينحرف الإنسان ويطمس على قلبه فيضل الطريق . يقول الله
سبحانه وتعالى : (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلىٰ قُلُوْبِهِمْ مَّا كَانُوْا
يَكْسِبُوْنَ) .
ولذلك
عندما يغيب الضمير الأخلاقي والاجتماعي والديني في مجتمع ، ما من المجتمعات التي
يعيش فيها الإنسان يصبح مسؤولاً عن أفعاله وأعماله ويواخذ عليها . فارتكاب الجرائم
التي يرتكبها الإنسان نظرًا لضعف الوازع الديني الأخلاقي وينحرف الضمير طبعًا
للعواطف والانفعالات التي يكتسبها الإنسان باكتساب العادات السيئة ، وعلى ذلك ،
يعتبر الضمير الأخلاقي عامل أساسي في بقاء المجتمعات وتماسكها، ويتمثل ذلك في
الإيمان بالله وهو هدف اجتماعي للمجتمع المسلم يحقق له الأمن والأمان . وعندما
لايوجد الضمير الأخلاقي والوازع الديني لدى الإنسان ، فهو يرتكب الجرائم البشعة في
حقه وفي حق مجتمعه ومحيطة ، وبالتالي يقع في حضيض من الذل والهوان ، ويستخف هوانه
وذله :
من يهن يسهل الهوان عليه
مــــا لجــــرح بميت إيــــلام
أُوْلـٰـئِكَ
كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ وَأوْلئِكَ هُمُ الْغَافِلُوْنَ .
إن
الشريعة الإسلامية جاءت بها يحقق التوافق التام بين أفراد الإنسانية ، فالإيمان
بالله إنما يؤتى ثمره وتتحقق فوائده للأفراد والجماعة عندما يستيقظ ضمير الإنسان
فيعرف أنه محاسب على فعله سرًا وعلانيةً فالواجب علينا تجاه أبنائنا . أن نغرس
القيم الدينية والأخلاقية في قلوب الأولاد ، لكي يوجد عندهم الضمير الديني
والأخلاقي ، فيمتنعهم من ارتكاب الجرائم والأثام في حق أنفسهم وفي حق الآخرين .
والله ولي التوفيق .
* * *
مجلة
الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول – ربيع الثاني
1426هـ = أبريل – يونيو 2005م ، العـدد : 4–3 ، السنـة : 29.